الحمد لله المحسن المنّان، أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطناً وهو علیٰ كلّ شيء قدير. الذّي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم. وبلّغه أعلیٰ مراتب العرفان والإيقان والإيمان. الذّي يُقيم حُجّتَه في كلّ زمان ومكان ويجدّد ملّته في كلّ أوان، ويدعو النّاس بالقرآن ورسوله المجتبیٰ إلیٰ مأدبة الجفلیٰ، ويحنّ علیٰ عباده بآرائي طرق السّلام والسّداد، ويسوّي الصّراط المستقيم للمتأهبين.
ربّ.. يا ربّ، صلّ علیٰ هذا الرّسول النّبي الأمّي المبارك السيّد الكريم الجليل الطيّب النّاصح الموقظ، كريــم الـسـجـايـا، شـفـيـع البـرايا، أكمل العلم والنّهیٰ، منبع الفضل والهدیٰ، فخر الأوّلين والآخرين، مأخذ كلّ فهم وحزم، خاتم النّبيين، فخر المرسلين، الشّفيع المشفّع، المنجي الإنسانيّة. الذّي سبق الأوّلين والآخرين في الإهتداء والإجتباء والإصطفاء والترحّم. لا شرف إلّا وهو الأوّل فيه ولا خير إلّا وهو الدّال عليه، ولا هداية إلّا وهو منبعها. جاء بالنّور المنير ونجّیٰ الخلق من الظلام المبين، وأوتى صحفا مطهّرة كشجرة طيّبةٍ، رغبت كلّ فطرة سليمة في استشارة سعودها، وجدع أنف الباطل من مارنه وسبق العالَمين والعاملين في عقله وعلومه وبركاته وفيوضه وأنواره حتّیٰ عمرت مواهب هدايته المشارق والمغارب، وجاء بالحجج والبراهين، وأتیٰ بالكتاب الذّي لا ريب فيه هدیٰ للمتّقين. وأعطیٰ الأفرخ الضعف قوّة الرّفيف والطيران. وبيّن لاتّباع أحكام ذلك الكتاب بأحسن البيان. وأصلح قوما وطهّر أناسا كانوا يفجرون ولا يتيقّظون وينخون مطايا نفوسهم ولا يسيرون في سبيل الله، وثبّط جذبات كفرهم وفسقهم وثبّت أقدامهم ونشّطهم إلیٰ الثبات والإستقامة حتّیٰ سمّوا أخيار النّاس، وبدلت شيمهم وقرائحهم ونوّرت نفوسهم وقلوبهم وتعلّقوا به تعلّق الثّمار بالأشجار حتّیٰ وصلوا منازل القُرب والوداد والمحبّة.
اللهم صلّ عليه وسلّم وبارك علیٰ سلالة أنوارك وصفوة أحبّتك وخيرة خلقك ومن كلّ ما ذرء وبرء، وحاز كل فضيلة في سيرته وصفاته، عدد ما في الأرض من القطرات والذّرّات والأحياء والأموات، وعدد ما في السماوات العُلیٰ وعدد ما ظهر واختفیٰ، وبلّغه منّا سلاما يملأ أرجاء العالمين.
فما بعد ذلك ما ينتظره المنتظرون، إذ قد أحاط بالنّاس ظلام وظلم ومظلمة وتمّت دائرة الفسوق وحبّ الدنيا والعصيان.
ما الحيلة عند هجوم هذه الخطوب ونشوب الفتن، وكيف النجاة والفلاح. الجواب عن ذلك واضح، الإعتصام بالكتاب والسنّة وما استنبطه السلف الصّالح من الذّكر الحكيم وسنّة رسوله الكريم وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين وآثار الصّحابة والتابعين. فتمسّكوا وعضّوا عليها بالنواجذ وايّاكم ومحدثات الأمور، فإنّ أصدق الحديث كتاب الله وأنّ أفضل الهدي هدي محمّد صلّیٰ الله عليه وسلّم وشرّ الأمور محدثاتها وكلّ بدعة ضلالة، ومن صنع أمراً غير أمر الله ورسوله فهو ردّ. فطوبیٰ لمن سنّ وسار وجاهد في سبل السّلام وجاء بفهم مستقيم وقام لإعلاء كلمة الحقّ ونهض يستقرئ طرق مرضاة الله ولا تفرحه جيفة الدنيا وشحومها وقد عصم من دنسها. وطوبی لقلب جذب إلیٰ الحقّ وطوبیٰ لعين هداها الله إلیٰ الصّواب وعصمها من طرق الفساد والإرتياب وطوبیٰ لِأذن أصغت وسمعت، وطوبیٰ لقدم إلیٰ الحقّ نهضت وسارعت، وطوبیٰ لنفس زكت من فورتها، و لفكر لا يعلم اللغوب، و طوبیٰ لقوم هم يقبلون الصداقة ولا يعرضون.
القرآن المجيد: هو حصن حصین ونور مبین ومعلّم ومعين. سريع الأثر علیٰ الأفئدة السّليمة. هو عماد الدّین وأصله وينبوعه، وهو المصدر الأوّل لكلّ شرائع الإسلام والشامل الأوّلين والآخرين. هو بصائر للنّاس وهدیٰ ورحمة لقوم يوقنون. وكتاب مكنون لا يمسّه إلا المطهّرون. يهدي للتي هي أحسن وأقوم وإنّه لقول فصل وما هو بالهزل. لاريب فيه هدیٰ للنّاس وبيّنات من الهدیٰ والفرقان. إنّه لحقّ اليقين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام والأمن ويخرجهم من الظّلمات إلیٰ النّور. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مبارك وشفاء لما في الصدور. هو أقویٰ تقريرا وقولا، وأوسع حفاوة وطولا، تعاليمه قد حيرت العقلاء والفضلاء بتأثيراتها وتبديلاتها وتنوريراتها. إنّه كلام جامع وتعليم كامل، أحاط جميع ضروريات الإنسان مع بلاغة رائعة وعبارات عذبة. تعليمه كان منقسما علیٰ ثلاثة أقسام وأنواع:
سنّة رسول الله صلّیٰ الله عليه وسلّم: السنّة هي الشطر الثّاني من الأصل الأوّل القرآن الكريم. السنّة آثار رسول الله صلّیٰ الله عليه وسلّم وهي تفسير القرآن ودلائل الفرقان وليس فيها قياس ولا تضرب لها الأمثال ولا تُدرَك بالعقول والأهواء، إنّما الإتّباع وترك الهویٰ. فبعد كتاب الله سنّة نبيّه عليه الصّلاة والسّلام.
السنّة أيضاً عـلـیٰ مرتبة التواتر وعند تعذّر الحكم من القرآن نستعين بها في ذلك، فإنّها البيان والشرح والمفصّل العملي للشرائع، فطلب علم الكتاب يكون عن طريق السنّة لأنّها هي الطريق المعبّد لطلب شرائع الدّین وعلوم الإسلام، وإنّ الذين يقتصرون علیٰ الكتاب من غير الاستعانة بالسنّة في بيانه وتعريف شرائعه يضلون سواء السبيل ولا يهتدون إلیٰ الحقّ القويم. - نزل القرآن وبه سنّ رسول صلّیٰ الله عليه وسلّم. ولذا فإنّ الإمام المحقّق ابن القيّم الجوزيّة عندما حكیٰ أصول أحمد بن حنبل اعتبر النّصوص الصّحيحة المسندة أصلا واحدا، جعل الكتاب والسنّة الصحيحة المتصلة أصلا واحدا، ولا يفرض تعارض بينهما )اللّباب في الجمع بين السنّة والكتاب للمنجى). نــصــوص الـقـرآن واردة بـوجوب طاعة الرّسول صلّیٰ الله عليه وسلّم، وليست طاعته إلا باتّباع سنّته وإنّ الإحتكام إلیٰ الرّسول في حياته وإلیٰ المروى عنه بعد وفاته أمر ثابت في الدّین، قال الله تعالیٰ:
مِن الأدّلة الواردة في الأحاديث التي تثبت وجوب الأخذ بالسنّة
وعدم الإقتصار علیٰ الكتاب ما رُوي أنّه ﷺ قال :
قد تركتكم علیٰ المحجّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغُ
عنها إلّا هالك، ومن يعش منكم فسيریٰ اختلافاً كثيراً
فـعـلـيـكـم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين من
بعدي. (أحمد بن حنبل: المسند، ١٧:٤، ١٢٦.)
وقال أيضا
فتمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ وإيّاكم ومحدثات
الأمور، فإنّ كلّ محدثة بدعة وكلّ بدعة ضلالة. (المسند،
١٧:٤ - ٢٦.)
عن الـمـقـداد بن معد يكرب يقول :
حرّم رسول الله ﷺ يوم خيبر أشياء ثم قال: يوشك أحدكم أن
يكذبني وهو متكئ علیٰ أريكته يحدّث بحديثي، فيقول: بيننا
وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما
وجـدنـا فيـــه مـن حـرام حرّمناه. ألا وإنّ ما حرّم رسول
الله ﷺ مثل ما حرّم الله. (المسند، ٤ :٢٣-١٣٢).
وما دلّ علیٰ ذلك من الأخبار والآثار كحديث معاذ: بم تحكم، قال:
بكتاب الله - قال : فإن لم تجد قال : بسنّة رسوله... وهكذا نجد النّصوص
الكثيرة الدّالة علیٰ وجوب طلب شرائع الإسلام من سنّة رسوله الكريم
ﷺ.
إنّ الأحكام الإسلاميّة الكثيرة التي أجمعت الأمّةُ علیٰ كثير منها مأخوذة من السنّة أو الإعتماد الأكبر فيها كان علیٰ السنّة. فمن لم يطلب الفقه من السنّة فقد ضيّع علیٰ نفسه تسعة أعشار الفقه الإسلاميّ أو أكثر. قال الشوكاني: إن الله سبحانه وتعالیٰ لم يبعث إلیٰ هذه الأمّة نبيّا إلا محمّدا، وليس لنا إلا رسول واحد وكتاب واحد وجميع الأمّة مأمورة باتّباع كتابه تعالیٰ وسنّة نبيّه. فمن قال إنّه تقوم الحجّة في دين الله عزّ وجلّ بغير كتاب الله وسنّة رسوله وما يرجع إليهما فقد قال في دين الله بما لا يثبت". (ارشاد الفحول، صفحة ٢١٤.)
الإمام الشافعي جعل الكتاب والسنّة في الإستدلال في مرتبة واحدة، لأنّ الإحتياج إليها ثبت عنه لقول الله تعالیٰ:
ولأنّ الثّانية مبيّنة للأوّل. فقد كان ابن القيّم صادقا تمام الصدق في ذكر استنباط أحمد بن حنبل عندما قررّ أنّ الأصل الأوّل هو النّصوص ولم يقدم نصوص القرآن علیٰ نصوص السنّة في البيان للأحكام. ولقد ألّف الإمام الجليل كتاباً في الردّ علیٰ من أخذ بظاهر القرآن وترك السنّة وكتب في مقدّمة كتابه هذا ما نصّه :" إنّ الله جلّ ثناه، وتقدّست أسماؤه، بعث محمّدا بالهدی ودین الحقّ ليظهره علیٰ الدّین كلّه ولو كره المشركون. وأنزل عليه كتابه الهدیٰ والنّور لمن تبعه وجعل رسول الله علیٰ ما أراد من ظاهره وباطنه وخاصّه وعامّه ونـاســخــه ومنسوخه، وما قصد له الكتاب فكان رسول الله هو المعبّر عن كتاب الله الدّال علیٰ معانيه". ثم ساق الإمام الجليل بعد ذلك آيات كريمات كثيرة تدلّ علیٰ وجوب اطاعة الرسول ﷺ.
و لقد قسّم ابن القيم السنّة بالنّسبة للقرآن إلیٰ ثلاثة أقسام
وقال في ذلك:" السنّة مع القرآن علیٰ ثلاثة أوجه.
— أحدهما: أن تكون موافقة له من كلّ وجه فيكون توارد القرآن والسنّة
علیٰ الحكم الواحد من باب توارد الأدلّة ونظائرها.
— الثّاني: أن تكون بيانا لما أُريد بالقرآن وتفسيرا له.
— الثالث: أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرّمة لما
سكت عن تحريمه، ولا تخرج عن هذه الأقسام فلا تعارض القرآن بوجه ما،
فما كان منها زائدًا علیٰ القرآن فهو تشريع مبتدأ عن النّبي ﷺ تجب
طاعته ولا تحلّ معصيته، وليس هذا تقديما لها علیٰ كتاب الله بل هو
امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله
(أعلام الموقعين، ٢٣٢:٢.)
حديث الرّسولﷺ : اعلموا أنّ لكلمات رسول ﷺ شأنا أرفع وأعلیٰ
ولا يتلقاها إلا الذي رزقه الله رزقا حسنا من المعارف وأعطاه
قلبا يفهم وعينا تبصر وأذنا تسمع فهو علیٰ بصيرة من ربّه،
ويسقیٰ من كأس كان مزاجها من تسنيم.
اشتدّت عناية السلف الصالح من الصّحابة بالحديث حفظاً في الصّدور
كما فعل أبو هريرة وقيّده بعضهم في الصّحف كما فعل عبد الله بن عمرو
بن العاص (٦٥ هـ)، بإذن رسول الله ﷺ وسمرة بن جندب (٥٨ هـ) ابن عباس
(٦٨ هـ) وجابر بن عبد الله (۷۸ هـ). الصّحابة هم الذين ارتضاهم الله
لنبيّه واصطفاهم له. كانوا علیٰ قدرعظيم في اتباع سيّد الأنام وكانوا
أمّة وسطاً أخرجت للنّاس وأيّدهم بروح منه، وقد ظهرت أنوار صدقهم
وآثار طهارتهم كأجلیٰ الضّياء وتبيّن أنّهم كانوا من الصّادقين.
والقرآن يحمدهم ويثني عليهم وبشّرهم ويقول أنّهم أصحاب اليمين والسابقون
والأخيار والأبرار ويسلّم بسلام البركات عليهم ويشهد أنّهم كانوا
من المقبولين. هم الذين تركوا أوطانهم وخلاّنهم وأموالهم وأثقالهم
لله ولرسوله وأُوذوا وأُخرجوا من أيدي الأشرار، فصبروا كالأبرار
واستخلفوا فما ارتعوا بيوتهم من الذهب والفضّة، وما جعلوا أبناءهم
وبناتهم ورثاء العين واللّجين كأبناء الدنيا وأهل الضلال، وعاشوا
في هذه الدّنيا في لباس الفقر والخصاصة وما مالوا إلیٰ التنعّم.
إنّ الله تعالیٰ زكّیٰ نفوسهم وطهّر قلوبهم ونوّر شموسهم وجعلهم
سابقين طيّبين ولا تجد احتمالا ضعيفا ولا وهما طفيفا يخبرعن فساد
نيّاتهم، فكانوا أعلم النّاس برسول الله ﷺ وبما أراد الله تعالیٰ
من كتابه وكانوا هم المعبّرين عن ذلك بعد رسول اللهﷺ ، وهم الذين
شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل وعرفوا سنّة سيّد الأوّلين.
قد بلّغ الصّحابة أحاديث النّبي ﷺ وسننه جيل التابعين لهم بإحسان من بعدهم، فحذوا حذوهم في حفظها وكتابتها ونقلها حتّیٰ جاء عصر التّدوين مع بداية القرن الثّاني ونهاية القرن الأوّل لهجرة النّبي ﷺ فأخذ تأليف وتدوين الحديث يتّبع منهاجا عاما لحفظ العلوم، وكان الدافع لهذا العمل الجليل هو حفظ الحديث من الاندثار بموت الأئمّة الحفاظ. فقام الأئمة الحفاظ يجمعون ما صحّ عن النّبي ﷺ بأمر من الخليفة الرّاشد عمر بن عبد العزيز (١٠١هـ) الذي أمر الحفّاظ في الإنفاق لهذه الخدمة ومنهم أبو بكر بن محمّد بن عمر وبن حزم (۱۲۰هـ) وابن شهاب الزهري (١٢٥هـ).
وكانت أوّل كتب ظهرت في الحديث في القرن الثّاني الهجري تصانيف بن جُرَيج (١٥٠هـ) بمكّة المكرّمة ومعمر بن راشد (١٥١هـ) باليمن ومحمّد بن إسحاق (١٥١هـ) بالمدينة والأوزاعي (١٥٦هـ) بالشام وسفيان الثوري (١٦١هـ) بالكوفة والليث بن سعد (١٧٥هـ) بمصر وحمّاد بن مسلمة (۱۷۹هـ) بالبصرة ومالك بن أنس )۱۷۹هـ( بالمدينة المنوّرة وابن المبارك )۱۸۱هـ( بخراسان وهُشیم ابن بشر)۱۸۸هـ (بواسط وجریر بن عبد الحمید )۱۸۸هـ (بلری. وكانت مناهجهم في التأليف تشييد بالجمع دون تبویب وتفصیل وتعتبرهذه الحقبة المرحلة الذهبيّة لعلم الحديث.